الأربعاء، مارس ٢٤، ٢٠١٠

عز الدين المناصرة - جفرا

أرسلتْ لي داليةً وحجارةً كريمة
مَنْ لم يعرفْ جفرا فليدفن رأْسَهْ
من لم يعشق جفرا فليشنق نَفْسَهْ
فليشرب كأس السُمِّ العاري يذوي، يهوي ويموتْ
جفرا جاءت لزيارة بيروت
هل قتلوا جفرا عند الحاجز، هل صلبوها في تابوت؟!
*
جفرا أخبرني البلبلُ لّما نَقَّر حبَّاتِ الرمِّانْ
لّما وَتْوَتَ في أذني القمرُ الحاني في تشرينْ
هاجتْ تحت الماء طيورُ المرجانْ
شجرٌ قمريٌّ ذهبيٌّ يتدلّى في عاصفة الالونْ
جفرا عنبُ قلادتها ياقوتْ
هل قتلوا جفرا قرب الحاجز.. هل صلبوها في التابوت؟
*
تتصاعدُ أُغنيتي عَبْر سُهوب زرقاءْ
تتشابه أيام المنفى، كدتُ أقول:
تتشابه غابات الذبح هنا وهناك.
تتصاعد أغنيتي خضراء وحمراءْ
الأخضر يولد من الشهداء على الأحياء
الواحةُ تولد من نزف الجرحى
الفجرُ من الصبح إذا شَهَقَتْ حبّاتُ ندى الصبح المبوحْ
ترسلني جفرا للموت، ومن أجلك يا جفرا
تتصاعدُ أغنيتي الكُحيَّلة.
منديلُكِ في جيبي تذكارْ
لم ارفع صاريةً إلاَّ قلتُ: فِدى جفرا
ترتفع القاماتُ من الأضرحة وكدتُ اقولْ:
زَمَنٌ مُرٌّ جفرا.. كل مناديلك قبل الموت تجيءْ
في بيروت، الموتُ صلاةٌ دائمةٌ والقتل جريدتُهُمْ
قهوتُهمْ، والقتل شرابُ لياليهمْ
القتل اذا جفَّ الكأس مُغنّيهمْ
وإذا ذبحوا.. سَمَّوا باسمك يابيروت .
سأعوذُ بعُمّال التبغ الجبليّ المنظومْ
هل كانت بيروتُ عروساً، هل كانت عادلةً.. ليست بيروتْ
إنْ هي إلاّ وجع التبغ المنظومْ
حبَّاتُ قلادته انكسرتْ في يوم مشؤومْ
إنْ هي إلاّ همهمة لصيّادين إذا غضب البحر عليهمْ
إنْ هي إلاّ جسد إبراهيم
إنْ هي إلاّ ابناؤك يا جفرا يتعاطون حنيناً مسحوقاً في فجرٍ ملغومْ
إنْ هي إلاّ اسوارك مريامْ
إنْ هي إلاّ عنبُ الشام
ما كانت بيروت وليستْ، لكنْ تتواقد فيها الاضدادْ
خلفكِ رومٌ
وأمامكِ رومْ!!
*
للأشجار العاشقة أُغنّي.
للأرصفة الصلبة، للحبّ أُغنّي.
للسيّدة الحاملة الأسرار رموزاً في سلَّة تينْ
تركض عبر الجسر الممنوع علينا، تحمل أشواق المنفينْ
سأغني.
لرفاقٍ لي في السجن الكحليّ، أُغني
لرفاقٍ لي في القبر، أغني
لامرأةٍ بقناعٍ في باب الأسباط، أغني
للعاصفة الخضراء، أغني
للولد الاندلسيّ المقتول على النبع الريفيّ، اغنّي.
لعصافير الثلج تُزقزقُ في عَتَبات الدورْ
للبنت المجدولة كالحورْ
لشرائطها البيضاء
للفتنة في عاصفة الرقص الوحشيْ
سأغنّي.
هل قتلوا جفرا؟
الليلةَ جئنا لننام هنا سيّدتي.. يا أُمَّ الأنهارْ
يا خالة هذا المرج الفضيْ
يا جدَّة قنديل الزيتونْ
هل قتلوا جفرا؟
الليلة جئناكِ نغّني.
للشعر المكتوب على أرصفة الشهداء المغمورين، نُغنّي
للعمّال المطرودين، نغّني
ولجفرا.. سنُغنّي.
جفرا.. لم تنزل وادي البادان ولم تركضْ في وادي شُعَيبْ
وضفائرُ جفرا، قصّوها عن الحاجز، كانت حين تزور الماءْ
يعشقها الماء.. وتهتز زهور النرجس حول الاثداء
جفرا، الوطن المَسْبيْ
الزهرةُ والطلْقةُ والعاصفة الحمراءْ
جفرا.. إنْ لم يعرفْ من لم يعرفْ غابة تُفَّاحٍ
ورفيفُ حمام.. وقصائد للفقراءْ
جفرا.. من لم يعشق جفرا
فليدفنْ هذا الرأس الأخضر في الرَمْضاءْ
أرخيتُ سهامي، قلتُ: يموتُ القاتل بالقهر المكبوتْ

منْ لم يخلع عين الغول الأصفر ... تبلعُهُ الصحراء.
جفرا عنبُ قلادتها ياقوتْ
جفرا، هل طارت جفرا لزيارة بيروت؟
جفرا كانت خلف الشُبَّاك تنوحْ
جفرا.. كانت تنشد أشعاراً.. وتبوحْ
بالسرّ المدفونْ
في شاطيء عكّا.. وتغنّي
وأنا لعيونكِ يا جفرا سأغنّي
سأغنّي
سأُغنّي.
لصليبكِ يا بيروتُ أُغنّي.
كانتْ.. والآنَ: تعلّقُ فوق الصدر مناجل للزرعِ وفوق
الثغر حماماتٌ بريّةْ.
النهدُ على النهدِ، الزهرةُ تحكي للنحلةِ، الماعز سمراء،
الوعلُ بلون البحر، عيونكِ فيروزٌ يا جفرا.
وهناك بقايا الرومان: السلسلةُ على شبكة صليبٍ.. هل
عرفوا شجر قلادتها من خشب اليُسْرِ وهل
عرفوا أسرار حنين النوقْ
حقلٌ من قصبٍ، كان حنيني
للبئر وللدوريّ إذا غنَّى لربيعٍ مشنوقْ
قلبي مدفونٌ تحت شجيرة برقوقْ
قلبي في شارع سَرْوٍ مصفوفٍ فوق عِراقّية أُمّي
قلبي في المدرسة الغربيّةْ
قلبي في النادي، في الطلل الأسمر في حرف نداءٍ في السوقْ.
جفرا، أذكرها تحمل جرَّتها الخمرية قرب النبعْ
جفرا، أذكرها تلحق بالباص القرويْ
جفرا، أذكرها طالبةً في جامعة العشّاقْ.
من يشربْ قهوته في الفجر وينسى جفرا
فَلْيدفنْ رأسَهْ
مَنْ يأكلْ كِسْرتَهُ الساخنة البيضاءْ
مَنْ يلتهم الأصداف البحرية في المطعم ينهشُها كالذئبْ
من يأوي لِفراش حبيبتهِ، حتى ينسى الجَفْرا
فليشنقْ نفَسَهْ.
جفرا ظلَّتْ تبكي، ظلَّتْ تركض في بيروتْ
وأبو الليل الاخضرِ، من أجلكِ يا جفرا
يشهقُ من قهرٍ شهقتَهُ.. ويموت!

الأعمال الكاملة لعز الدين المناصرة - المؤسسة العربية للدراسات والنشر

ليست هناك تعليقات: