الثلاثاء، يناير ٢٦، ٢٠١٠

نازك الملائكة - مرثية امرأة لا قيمة لها

" صور من زقاق بغداديّ "

ذهبـتْ ولـم يَشْحَـبْ لهـا خَـدٌّ ولم ترجـفْ شفـاهُ
لم تسْـمعِ الأبـوابُ قصَّـةَ موتِـها تُرْوَى وتُرْوَى
لم ترتفــعْ أستــارُ نافـذةٍ تسيــلُ أسـىً وشَجْـوَا
لتتـــابعَ التابـــوتَ بالتحديـــقِ حتــى لا تـــراه
إلا بقيَّـــةَ هيــكلٍ فــي الدربِ تُرْعِـــشُه الذِّكَــرْ
نبـأٌ تعثَّـرَ فـي الدروبِ فلـم يَجـد مـأوىً صــداهُ
فأوى إلى النسيانِ في بعضِ الحُفَـرْ
يَرثي كآبَتَهُ القَمَرْ .

*
واللــيلُ أسلــمَ نفسَــهُ دونَ اهتمــامٍ ، للصَّبـاحْ
وأتى الضياءُ بصـوتِ بائـعةِ الحلـيبِ وبالصيامْ
بِمُـواءِ قِـطٍّ جائــعٍ لـم تَبْـقَ منـه سـوى عظــامْ
بِمُشــاجراتِ البــائعين ، وبالمــرارةِ والكفــاحْ
بتراشُقِ الصبيان بالأحجارِ في عُرْضِ الطريقْ
بِمَساربِ المـاءِ المُلَـوَّثِ في الأزِقَّــةِ ، بالرياحْ
تلهو بأبوابِ السطوح بلا رفيقْ
في شبهِ نسيانٍ عميقْ

9-7- 1952

المصدر : ديوان نازك الملائكة ، المجلد الثاني ، ص 273 ، دار العودة - بيروت ، 1986 .

الجمعة، يناير ١٥، ٢٠١٠

عبد الوهاب البياتي - صورة للسهروردي في شبابه

( 1 )

لو كان البحر مدادًا للكلمات لصاح الشاعرُ:
يا ربي، نفدَ البحرُ وما زلت على شاطئه أحبو.

الشيب علا رأسي وأنا ما زلت صبياً
لم أبدأ بعد
طوافي ورحيلي،
فإذا احترق الخيَّام بنار الحب
وأصبح في حان الأقدار حجاباً، فأنا حول النار
فراش ما زلت أحوم وأُفني ليلى سُكراً، أتأمل
وجه القمر الفضي الأزرق في صحراء الحب
يغيب، ليترك في أقداح العشاق رماداً.
كنت أحبك حتى الموت فأين مضى حبك؟ واعجبا!
قلبي مرتعد كالوَرْقة يسألني: أين مضى؟
ما أوحش هذي الصحراء: ولدنا فيها، أحببناها
ورحلنا، عانينا فيها موت الروح، حملناها كبريق
ذهبي يتغلب هذا الليل عليه، يموتْ.
كنت أريدك لي وحدي لكنك كنتِ لكل العشاق
كنتِ تخونين الواحد باسم الآخر،
يا مشروع امرأة ألقيتُ بها في سلّ الإِهمال.
أتأمل وجه القمر الفضي الأزرق
في مرآة الحان
أتأمل وجه العشاق
الشيب علا رأسي وأنا ما زلت صبياً
لم أبدأ بعد طوافي ورحيلي في الكلماتْ.
فإذا نُحر الحلاج وأصبح في تاريخ العشق
شهيدًا فأنا لم أبدأ عرس دمي حتى الآن

( 2 )

كنت أُحبك حتى الموت فأين مضى حبك؟
واعجبا!
قلبي مرتعدًا كالورقةِ
يسألني: ما أوحش هذي الصحراء
أتوغل فيها مجنوناً، بالكلمات
أتأمل وجهي في المرآة
وأقول له: ها نحن معاً، فاكتم أمر رحيلي،
حتى لا تُنهَب، يا حادي الأظعان.

( 3 )

بدم القلب، كتبت وأشعلت النار
بهشيم الكلمات
لكني لم أبدأ في إشعال النار بقلبي، حتى الآن.

( 4 )

يسري سم بعروقي، قطرات دمي تصرخ ظامئة وتقول:
أحبك أو كنت أحبك، لا أدري الآنْ
فأنا أخبط في ليل وأموت على قدحي ظمآن
حانات العالم تعرفني
ومقاهي أرصفة الفجر الأسيانْ.

( 5 )

يا من أوقفني ما بين الجسد المشدود كقوس والمُطلَقْ
يا من أوقعني في هذا المأزق
حطّم هذا الزورق
بصخور شواطئ يمّ الليل الأزرق.

( 6 )

أعرفها تلك الشطآن، فمنها أبحر أجدادي
للصين وعادوا مبهورين بأنياب التنين، ومنها
أقلع عمال البحر لصيد اللؤلؤ في بحر الهند
وعادوا، أكثر مما كانوا، فقراءْ
أعرفها تلك الصحراء المائية ذات الأثداء
وهي تعرّي سرّتها للشمس الحمراء
أعرفها وأراها كل مساء في حان الأقدار
بجواهر زائفة وعيون من خزف: تلك الشمطاء
تغوي الساقي، فيخون
ويبوح بسر شهيد العشق المقتول.

( 7 )

أوقفنى في باب الممنوعات
"منها": قال: "الكلمات"
"فتعقلْ في هذا الباب" وغاب

( 8 )

ممنوع: أفلاطون

وأرسطو والمتنبي وجلال الدين
في هذا الجحر الملعون.

( 9 )

يسقط رأسي مقطوعاً في طبق السلطان
وأنا لم أبدأ رحلة عمري حتى الآن!

من ديوان ((مملكة السنبلة)) 1979 كتاب المختارات دار الكنوز الأدبية بيروت لبنان

الخميس، يناير ٠٧، ٢٠١٠

محمود عزت - انحراف تافه

-كلاسيكية بلا ضفاف إلا ضفة نيل إمبابة-
*
هناك خطأ ما في مشية هذا الرجل
خطأ تافه، ضئيل
لا تلاحظه لولا أن يخبرك أحد بذلك..

ستقول :
هذا الرجل كان من الممكن أن يمشي بطريقة أفضل..
رغم أنه سيظل هكذا للأبد
يمشي، فيفكر أحدهم أن هناك خطأ ما

خطأ ما كان عليه أن يعتني به فحسب

فيسير كل شئ بعدها بشكل جيد
هذا الرجل رئته مثقوبة
يرغب في العودة إلى البيت

وينزف ببطء في الداخل

هو ذاته لا يعلم ذلك

لأنه لم ير نفسه من قبل وهو يمشي
فقط كان جالساً على المقهى
يسمع لحنا متواصلاً طويلاً
به خطأ ما..أزعجه بشدة
خطأ واحد بسيط

لا يمكنه تحديده

دفعه إلى القيام سريعاً
والسعال في قبضته المضمومة والمشي
وهو يفكر في الملحن العبقريّ

الذي ارتجفت أصابعه للحظةٍ على البيانو
حين تذكر أيامه القديمة
فانبعج اللحن..
لوهلةٍ، ثم عاد إلى مساره الدائري..
فلم يكن هناك أي مساحة حينها
لإعادة العزف
كان الملحن سيتذكر أيامه القديمة

في نفس النقطة

فينبعج اللحن ويعود
هكذا كل مرةْ

يتذكر فيها أيامه القديمة في المدينةِ
تلك التي كان بها خطأ ما

خطأ بسيط تافه

لا يعرفه تحديداً

انحراف غير مرئي في المنحنى
دفعه ملايين الأمتار
بعيداً بعيداً
حيث كان يجب أن يكون..

هو ذاته لا يعلم ذلك

لأنه من قبل لم يسر في منحنيات أخرى...
فقط كان يمشي

تاركا قهوته، منزعجا من اللحن
فيفكر كل من يراه أن هناك خطأ ما

تافهاً وبلا أي داعٍ
لا يمكن تحديده.. لا يمكن تداركه

في مشية هذا الرجل
تراكم مرةً ثم مرةً ثم مرةْ
فألقاه بعيداً إلى الساحلْ
حيث كان يجب أن يكون البيت.


* محمود عزت - ديوان "عن الكائنات اللطيفة" - دار ميريت